ماذا عن التشكيل المغربي الراهن؟ كيف يحضر هذا اللون الفني في العالم العربي؟ وماذا عن حضوره العالمي؟ هل يملك المغاربة ثقافة بصرية تؤهلهم للتفاعل مع أعمالهم؟ هل يواكب النقد تحولات التشكيل بالمغرب على النحو المأمول؟ هل نملك صالات عرض تتلاءم معاييرها وقيمة التشكيل المغربي؟ ماذا عن التداول والرواج وأرقام المبيعات؟ ما الذي يحتاج إليه التشكيل المغربي والتشكيليون المغاربة؟
توجهنا بهذه الأسئلة إلى أربعة من المتخصصين في حقل التشكيل، سواء من جهة التنظير والنقد أو جهة الإبداع، وحاولنا أن نقترب ما أمكن مما يشغل التشكيلي المغربي، وما يحد حركيته من حواجز وإكراهات وأعطاب.
لا حاجة إلى معلم
يرى التشكيلي والناقد الفني عزيز أزغاي أن علاقة المغاربة بالفن الحديث لا تتعدى نصف قرن بقليل، يقول في هذا الصدد: "على عكس غالب الشعوب العربية التي اكتشفت اللوحة المسندية الاستشراقية في تاريخ متقدم عبر البوابة العثمانية، لم يتعرف المغاربة على اللوحة المسندية إلا في مطلع القرن الـ20 مع الحمايتين الفرنسية والإسبانية (1912)، قبل أن ينجذب إليها بعض الشبان المغاربة، الذين كان بعضهم على علاقة بفنانين غربيين، كانوا مستقرين في بعض الحواضر المغربية الكبرى مثل طنجة ومراكش، هذا التأخر يفسر نوعية الفنانين المغاربة الأوائل العصاميين، الذين لم تتح لهم فرصة الاستفادة من التعليم النظامي الحديث، ولا تعلم فن الرسم أو الإلمام بأبسط تقنياته وقواعده داخل واقع ثقافي تقليدي كانت نخبته المتعلمة تنظر إلى الفنون بغير قليل من الازدراء".
يضيف صاحب "التشكيل وخطاباته" في قراءته الكرونولوجية لتاريخ التشكيل في المغرب: "وبذلك يمكن تشبيه هذا الجيل المؤسس كمن أُلقي في البحر وهو لا يجيد السباحة، وسوف ننتظر إلى غاية سنوات الأربعينيات التي شهدت إنشاء مدرسة الفنون الجميلة في تطوان (1945) ثم بعدها مدرسة الدار البيضاء (1952)، وهما المؤسستان اللتان شهدتا تخرج الأفواج الأولى من الفنانين المغاربة المتعلمين، قبل أن يواصل بعضهم دراساته العليا في عدد من البلدان الغربية الرائدة فنياً، ومنذ سبعينيات القرن الماضي تعززت هذه الكوكبة من الفنانين الرواد بفنانين شباب جدد، لم تكن أعمالهم وطموحاتهم تخفي شغفهم بنعمة التجريب المغامر، واستفادتهم الانتقائية الذكية مما كان يبدعه فنانون ينتمون إلى جغرافيات تشكيلية كونية، الأمر الذي يفسر المكانة المرموقة التي باتت تحتلها مدونة التصوير المغربي ضمن خريطة التشكيل العربي في الوقت الراهن".
وبخصوص التأطير الأكاديمي والمواكبة المؤسساتية للتشكيل المغربي، يرى عزيز أزغاي أستاذ تاريخ الفن بالتعليم العالي أن المغرب ما زال يفتقد إلى غاية اليوم لجامعات ومعاهد فنية متخصصة، أو أقله إلى مسالك جامعية ذات صلة، غير أنه يستطرد "ومع ذلك لم يقف هذا الفراغ الأكاديمي المؤسسي حائلاً أمام أجيال الفنانين المغاربة المتعاقبين للكشف عن نبوغهم الفني، ولعل ذلك ما سبق للباحثة الإيطالية طوني مارايني أن أشارت إليه، قبل أزيد من نصف قرن في معرض حديثها عن طبيعة الإنسان / الفنان المغربي، حيث بدا لها أنه لم يكن يوماً في حاجة إلى معلم يلقنه قواعد الرسم، بقدر حاجته على من يكون شاهداً على مواهبه الفنية الكامنة".
العجز عن المنافسة العالمية
يبدو للباحث والفنان إبراهيم الحيسن أن الفن التشكيلي المعاصر في المغرب لا ينفصل عن التجربة العربية التي لا تزال في عموميتها محكومة بنسقية بصرية مبنية على رؤية فنية متعثرة، ويرجع السبب في ذلك إلى كون "عديد من تشكيليينا لم يستوعبوا المرور من الحداثة إلى المعاصرة، وهيمن على معظمهم هاجس الانتماء إلى فن الآخر وولوج العالمية ولو من أضيق الأبواب".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
يفسر صاحب "أوهام الحداثة في الفن التشكيلي المغرب" فكرته على النحو الآتي، "بمعنى آخر إن الممارسة التشكيلية لدينا لا تزال مطبوعة بكثير من الارتباك والعجز عن المنافسة العالمية بسبب الوضع المحلي الذي يفتقر إلى سوق فنية دينامية منتظمة، ويقل فيه التشجيع والتأطير وسبل التزود بالمعرفة الفنية الكافية إبداعياً وبيداغوجياً وأكاديمياً، إلى جانب ضعف وهشاشة البنيات التحتية الفنية وغياب الاعتراف بالإبداع التشكيلي داخل برامج سياساتنا ومخططاتنا الثقافية بوجه عام، زد على ذلك غياب المنتديات الفنية الفاعلة وضعف الدرس الجمالي في المدرسية المغربية، بمختلف أسلاك التعليم، والحاجة إلى إعلام فني حقيقي تخصصي، ومنح للتكوين والإقامات الفنية وخلق جائزة وطنية كبرى لدعم التعبير التشكيلي في بلادنا في الإبداع والنقد والتنظير والتأريخ، ونشر المجلات والكتاب التشكيلي على نطاق تداولي جاد ومؤثر".
وبعد تعداد هذه الأعطاب يعود أستاذ مادة التربية الفنية بالتعليم العالي إلى الإقرار بأن كل هذه العراقيل والنقائص لا يلغي الاعتراف بوجود "تجارب فنية مغربية معاصرة متباينة وإن كانت معدودة استطاعت حمل المشعل وإثبات الذات وفرض الشخصية الإبداعية دولياً في مجموعة من الصنوف والتعبيرات التشكيلية الجديدة والوافدة، لاسيما في مجال الإرساءات التشكيلية والفيديو آرت والفوتوغرافيا المفاهيمية والديزاين وفنون الغرافيك والتصوير والنحت الجديد... وذلك من خلال المشاركة في البينالات والترينالات الدولية، أو العرض في مراكز وصالات ومتاحف معروفة، وهي تجارب فردية قليلة جديرة بالمتابعة والاهتمام استندت بالأساس إلى جهود فردية وجدت صداها في تربة برانية منحتها نوعاً من الاعتراف والشرعية الدولية، التي كانت بمثابة تأشيرة عبور نحو الضفاف والعوالم الفنية الأخرى المفقودة لدينا للأسف الشديد".
انتعاشة تحتاج إلى مزيد
اختار الباحث الجمالي عز الدين بوركة أن يقف عند مفهومين مختلفين في التوصيف الزمني للفن، إذ يقول "أبدأ أولاً من مصطلح ’الراهن‘ actuel الذي يختلط عند كثيرين بمصطلح ’المعاصر‘ contemporain، هذا إن لم نستحضر توصيف ’الحديث‘ أيضاً، فما هو الراهن إذاً؟ إنه ذلك الذي يزامننا ويعد نتاجاً هنا والآن، إنه إذاً توصيف، إن تمت إضافته للفن، يرتبط بكل التعبيرات والممارسات التي تتعلق أنطولوجياً بالآني، وفي صلب الفن الراهن تتعايش ثلاثة أجناس فنية الفن الكلاسيكي والفن الحديث والفن المعاصر، الأول يرتهن لتمثيل الواقع والأسطوري والملحمي، بينما يتعلق الثاني بالإنساني والذاتي والجواني، ويرتبط الثالث باللاذاتية والتشظي وتجاوز الحدود".
يضيف صاحب "الفن التشكيلي في المغرب من البدء إلى الحساسية"، "ما يهمني شخصياً في هذه النقطة هو الحديث عن الفن المعاصر اليوم في المغرب، إذ إنْ ارتبط كل من الكلاسيكي والحديث باللوحة والمنحوتة، وهو ما يسمح بضبطهما وتحديدهما... فالمعاصر لا يتعلق بأية ممارسة في حد ذاتها، ولا يقيم في أي شكل محدد، مما يجعل كثيرين غير قادرين على استيعابه وتقبله، إن هذا الفن (ما بعد الحداثي) هو فن في المعاصرة contemporanéité، أي أنه ليس فن الحاضر أو الرهن أو الفن الذي يعاصرنا بالمعنى الضيق للكلمة، والمعاصرة هنا تأتي بكل ما تحمله من دلالات فلسفية مرتبطة بالحداثة البعدية، ومتعلقة بعالم الاستهلاك السائل والعولمة والسوق المعاصرة ووسائل الاتصال والتواصل والإعلام المعاصرة، كما أنها متعلقة بالمؤسسات المالية الكبرى وغيرها، أي أنها نتاج تشابك بين مختلف المستويات الفلسفية والسياسية والاقتصادية والثقافية والسوسيولوجية والمعرفية، أو كما يخبرنا هنري ميشونيك أن ’الحداثة والمعاصرة ليستا مفهومَين موضوعيين للتأريخ، لكنهما متصادمتان، وليستا قابلتين للتبادل، إنهما خصمان‘، لهذا فالحديث عن الفن المعاصر في المغرب يتطلب منا الانتباه الجيد للممارسات التي تسلك مسالك الحساسيات المفرطة، التي تنزاح عن كل الممارسات المنطوية ضمن لواء الحداثة".
يتوقف بوركة عند هذه المفاهيم بشكل دقيق لأنه يعرف أثرها في عملية التلقي، لذلك سألناه عن المسافة التي قد تكون أحياناً بمثابة هوة بين اللوحة ومتلقيها في المغرب، ومدى اشتغال الجهات المعنية من أجل الترويج والتداول، فكان جوابه على النحو الآتي: "لقد أدرك مجموعة من النقاد المغاربة هذا المعطى الجينيريكي والفلسفي المرتبط بالفن المعاصر، وهم اليوم يحاولون جاهدين رسم معالم هذا البراديغم الفني الجديد في المغرب عبر قراءات فكرية أو سوسيولوجية أو تحليلية، تحاول جعل المتلقي يقترب من معالم هذا الفن العصي على الإمساك المنفلت والمركب والهجين والمتجدد باستمرار، وذلك من دون أن نغفل الدور الذي تقوم به مؤسسات عمومية أو خاصة على رغم قلتها للترويج للممارسات المعاصرة، خصوصاً منذ سنوات التسعينات الأخيرة، إذ بدأنا نتحدث عملياً في المغرب عن تيارات فنية معاصرة عرفت النور وتحقق لها الوجود فوق أرضية صلبة وخصبة، بفعل الانزياحات التي حدثت سواء في سوق الفن والتغيرات التي طرأت على اهتمامات المهتمين بالفن وتحول نظر المؤسسات الداعمة الكبرى صوب منجزات الفنانين المغاربة المنشغلين بالمعاصرة، وأيضاً التحولات البيداغوجية التي حدثت في مدرستي الفن في الدار البيضاء وتطوان، حيث تمت برمجة مواد دراسية تعنى بتدريس الفنون الجديدة، ومن ثم ظهور مؤسسات جديدة تهتم بعرض وتسويق هذه المنجزات، كل ذلك وغيره ساهم في انتعاشة الفنون المعاصرة بالمغرب على رغم حاجتنا لمزيد من التعريف بهذا الجنريك الفني الجديد".
الجهد الفردي يسبق المؤسسات
لا يطمئن الفنان عبدالفتاح بلالي لحضور التشكيل المغربي خارج البلاد، ويحس أن نصيباً وافراً من الظلم يطاوله، فالمقترح الجمالي المغربي أكبر بكثير من حقيقة تداوله خارج المغرب، إذ يقول في هذا الصدد "يمكنني القول إن حضور التشكيل المغربي بالعالم العربي باهت مقارنة مع دول عربية أخرى، لمستُ هذا عن قرب من خلال مشاركاتي في مجموعة من الدول العربية كان آخرها مملكة البحرين، وهذا لا يعني أن اللمسة الفنية غير مرغوب فيها بل عكس ذلك، فالفنان المغربي له مكانة مميزة بالعالم العربي لما يتميز به من تجديد ومواكبة لمختلف تطورات الحركة التشكيلية عالمياً، والسبب في هذا يرجع إلى انزواء بعض الفنانين وانحصارهم محلياً أو وطنياً، وكذلك عدم انخراطهم في المشهد الثقافي الفني العربي، مع العلم أنه يعرف تطوراً ملحوظاً واهتماماً دولياً كبيراً كما هو الشأن في معرض دبي أو بينالي الشارقة الذي سبق لي المشاركه به".
يحاول الفنان عبدالفتاح بلالي صاحب تجربة "تراب بلادي" أن يلتمس العذر لفنانينا "لأن جلهم ينتظر مبادرات الوزارة الوصية أو نقابة الفنانين وغيرها، لكن هيهات"، ويرى أن قدر الفنان المغربي هو أن يجدف في الأوساط المحلية والخارجية بمجاديفه الخاصة، وبجهده الفردي من دون التعويل كثيراً على المبادرات المؤسساتية أو انتظار الآخر الذي يأتي من خارج البلاد، كما يقول في هذا الصدد: "شخصياً أعرف بنفسي خارج الحدود، وأتقاسم تجربتي مع العالم بمجهود فردي ودعم خاص، وهذا هو ما جعلني أعرض لوحاتي في مجموعة من الدول العربية، أذكر منها لبنان وتونس والأردن والإمارات وليبيا والبحرين وغيرها".
يختم الفنان بلالي كلامه بالعتاب: "الفنان سفير الجمال والمحبة والسلام وبه تكتمل صورة العالم، ويجب الاعتناء به والتعريف به ليس فقط على مستوى العالم العربي بل في كل القارات، وكيف يكون ذلك إذا كان هذا الفنان خارج إطار اللوبي المهيمن؟ فإقصاؤه وطنياً يمنعه أن يتخطى الحدود".